فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} القوم: الجماعة الرجال دون النساء؛ قال الله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} [الحجرات: 10] ثم قال: {وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} [الحجرات: 10].
وقال زُهير:
وما أدرِي وسوف إخال أدرِي ** أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ

وقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80] أراد الرجال دون النساء.
وقد يقع القوم على الرجال والنساء؛ قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] وكذا كل نبيّ مرسَل إلى النساء والرجال جميعًا.
قوله تعالى: {يَا قَوْمِ} منادَى مضاف.
وحذفت الياء في {يا قَوْم} لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها؛ وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد.
ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة؛ فتقول: يا قومي؛ لأنها اسم وهي في موضع خفص.
وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء؛ فقلت: يا قومِيَهْ.
وإن شئت أبدلت منها ألفًا لأنها أخفّ؛ فقلت: يا قومًا، وإن شئت قلت: يا قوم؛ بمعنى يا أيها القوم.
وإن جعلتهم نكرة نصبت ونوّنت.
وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ.
وتقول: قوم وأقوام؛ وأقاوم جمع الجمع.
والمراد هنا بالقوم عَبَدة العجل، وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} استغنى بالجمع القليل عن الكثير؛ والكثير نفوس.
وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القِلة، والقليل موضع الكثرة؛ قال الله تعالى: {ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228].
وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} [الزخرف: 71].
ويقال لكل مَن فعل فعلا يعود عليه ضرره: إنما أسأتَ إلى نفسك.
وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
ثم قال تعالى: {باتخاذكم العجل} قال بعض أرباب المعاني: عجلُ كلّ إنسان نفسه؛ فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه.
والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل. والحمد لله. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يا قوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين، وإنما فصل بينهما بقوله: {وإذ آتينا} [البقرة: 3 5] الخ؛ لأن المقصود تعداد النعم فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم وليس بشيء واللام في {لِقَوْمِهِ} للتبليغ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب موسى لقومه كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه كالخطابات المذكورة سابقًا لبني إسرائيل والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرئ وقياسه أن لا يجمع وشذ جمعه على أقاويم والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} مع قوله: {وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء} [الحجرات: 11] وقال زهير:
فما أدري وسوف أخال أدري ** أقوم آل حصن أم نساء

وقيل: لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضًا لقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك، وسمي الرجال قومًا لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال موسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم بيا قوم إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه، وهزّ لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم والباء في {باتخاذكم} سببية وفي الاتخاذ هنا الاحتمالان السابقان هناك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} الآية.
هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابرًا لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمنة لها قوله تعالى: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك} [البقرة: 52] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه وهو حينئذ منة إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان المذنب النفس والبدن ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح، فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان.
فقول موسى لقومه: {إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد وإن جاز الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها شرائع الله فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلًا حقيقة إما بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله: {ظلمتم أنفسكم} وقول ابن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوءه ** شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها

وإما بأن يقتل من لم يعبدوا العجل عابديه، وكلام التوراة في هذا الغرض في غاية الإبهام وظاهره أن موسى أمره الله أن يأمر اللاويين الذين هم من سبط لاوي الذي منه موسى وهارون أن يقتلوا من عبد العجل بالسيف وأنهم فعلوا وقتلوا ثلاثة آلاف نفس ثم استشفع لهم موسى فغفر الله لهم أي فيكون حكم قتل أنفسهم منسوخًا بعد العمل به ويكون المعنى فليقتل بعضكم بعضًا، فالأنفس مراد بها الأشخاص كما في قوله تعالى: {فإذا دخلتهم بيوتًا فسلموا على أنفسكم} [النور: 61] أي فليسلم بعضكم على بعض وقوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} [البقرة: 84] أي لا يسفك بعضكم دماء بعض وقوله عقبه: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85] فالفاعل والمفعول متغايران.
ومن الناس من حمل الأمر بقتل النفس هنا على معنى القتل المجازي وهو التذليل والقهر على نحو قول امرئ القيس:
في أعشار قلب مقتَّل

وقوله: خمر مقتلة أو مقتولة، أي مذللة سورتها بالماء.
قال بجير بن زهير:
إن التي ناولْتَني فرددتُها ** قُتِلتْ قُتِلت فهاتها لم تُقتلِ

وفيه بعد عن اللفظ بل مخالفة لغرض الامتنان، لأن تذليل النفس وقهرها شريعة غير منسوخة.
والظلم هنا الجناية والمعصية على حد قوله: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]. اهـ.
قوله تعالى: {فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ}.

.قال الألوسي:

{فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ} الفاء للسببية لأن الظلم سبب للتوبة وقد عطفت ما بعدها على {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ} والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف بالواو وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معًا، والبارئ هو الذي خلق الخلق بريًا من التفاوت وعدم تناسب الأعضاء وتلائم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة، والأخرى بخلافه؛ ومتميزًا بعضه عن بعض بالخواص والإشكال والحسن والقبح فهو أخص من الخالق وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي كبرء المريض أو الإنشاء كبرأ الله تعالى آدم أي خلقه ابتداءً متميزًا عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها وهو مثل في الغباوة والبلادة وقرأ أبو عمرو: {بَارِئِكُمْ} بالاختلاس، وروي عنه السكون أيضًا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والفاء في قوله: {فتوبُوا} فاء التسبب لأن الظلم سبب في الأمر بالتوبة فالفاء لتفريع الأمر على الخبر وليست هنا عاطفة عند الزمخشري وابن الحاجب إِذ ليس بين الخبر والإنشاء ترتب في الوجود، ومن النحاة من لا يرى الفاء تخرج عن العطف وهو الجاري على عبارات الجمهور مثل صاحب (مغني اللبيب) فيجعل ذلك عطف إنشاء على خبر ولا ضير في ذلك.
وذكر التوبة تقدم في قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} [البقرة: 37].
والفاء في قوله: {فاقتلوا أنفسكم} ظاهرة في أن قتلهم أنفسهم بيان للتوبة المشروعة له فتكون الفاء للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} [النساء: 153] كما في (مغني اللبيب) وهو يقتضي أنها تفيد الترتيب لا التعقيب.
وأما صاحب الكشاف فقد جوز فيه وجهين أحدهما تأويل الفعل المعطوف عليه بالعزم على الفعل فيكون ما بعده مرتبًا عليه ومعقبًا وهذا الوجه لم يذكره صاحب (المغني) وهذا لا يتأتى في قوله تعالى: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا}، وثانيهما جعل التوبة المطلوبة شاملة لأقوال وأعمال آخرها قتلهم أنفسهم فتكون الفاء للترتيب والتعقيب أيضًا.
وعندي أنه إذا كانت الجملة الثانية منزلة منزلة البيان من الجملة الأولى وكانت الأولى معطوفة بالفاء كان الأصل في الثانية أن تقطع عن العطف فإذا قرنت بالفاء كما في هذه الآية كانت الفاء الثانية مؤكدة للأولى، ولعل ذلك إنما يحسن في كل جملتين تكون أولاهما فعلًا غير محسوس وتكون الثانية فعلًا محسوسًا مبين للفعل الأول فينزل منزلة حاصل عقبه فيقرن بالفاء لأنه لا يحصل تمامه إلا بعد تقرير الفعل الأول في النفس ولذلك قربه صاحب الكشاف بتأويل الفعل الأول بالعزم في بعض المواضع. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} لما قال لهم: فتوبوا إلى بارئكم؛ قالوا: كيف؟ قال: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ}.
قال أرباب الخواطر: ذَلِّلوها بالطاعات وكُفّوها عن الشهوات.
والصحيح أنه قَتْلٌ على الحقيقة هنا.
والقتل: إماتة الحركة.
وقتلت الخمر: كسرت شدّتها بالماء.
قال سفيان بن عُيَيْنة: التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم؛ وكانت توبة بني إسرائيل القتل.
وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العِجل بأن يقتل نفسه بيده.
قال الزُّهْرِيّ: لما قيل لهم: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] قاموا صفّين وقتل بعضهم بعضا؛ حتى قيل لهم: كُفّوا.
فكان ذلك شهادةً للمقتول وتوبةً للحيّ؛ على ما تقدّم.
وقال بعض المفسرين: أرسل الله عليهم ظلامًا ففعلوا ذلك.
وقيل: وقف الذين عبدوا العجل صفًّا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم.
وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقَتَلُوا إذ لم يعبدوا العجل مَن عبد العجل.
ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم مُحْتَبُون فقال: ملعون من حلّ حَبْوتَه أو مدّ طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رِجل.
فما حلّ أحد منهم حبوته حتى قتل منهم يعني من قتل وأقبل الرجل يقتل من يليه.
ذكره النحاس وغيره.
وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم على القول الأوّل؛ لأنهم لم يغيّروا المنكر حين عبدوه؛ وإنما اعتزلوا، وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده.
وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يُغَيَّر عوقب الجميع.
روى جرِير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي هم أعزّ منهم وأمنع لا يغيّرون إلا عَمّهم الله بعقاب» أخرجه ابن ماجه في سُننه.
وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفًا عفا الله عنهم.
قاله ابن عباس وعليّ رضي الله عنهما.
وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم.
فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة.
وقرأ قتادة: فأقيلوا أنفسكم من الإقالة؛ أي استقبلوها من العثرة بالقتل. اهـ.

.قال الألوسي:

{فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} الفاء للتعقيب، والمتبادر من القتل القتل المعروف من إزهاق الروح وعليه جمع من المفسرين والفعل معطوف على سابقه، فإن كانت توبتهم هو القتل إما في حقهم خاصة، أو توبة المرتد مطلقًا في شريعة موسى عليه السلام، فالمراد بقوله تعالى: {فَتُوبُواْ} اعزموا على التوبة ليصح العطف وإن كانت هي الندم والقتل من متمماتها كالخروج عن المظالم في شريعتنا فهو على معناه ولا إشكال، وقد يقال: إن التوبة جعلت لهؤلاء عين القتل ولا حاجة إلى تأويل توبوا باعزموا، بل تجعل الفاء للتفسير كما تجعل الواو له وقد قيل به في قوله تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم} [الأعراف: 136] وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضًا، فمعنى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 9 2] {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] والمؤمنون كنفس واحدة، وروي أنه أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل، وسمى الاستسلام للقتل قتلًا على سبيل المجاز، والقاتل إما غير معين، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام، والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وفي كيفية القتل أخبار لا نطيل بذكرها، وجملة القتلى سبعون ألفًا، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم وقال: لا يجوز ذلك عقلًا إذ الأمر لمصلحة المكلف وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقًا بأمره نستبقيها؛ وبأمره نفنيها وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو، حياة سرمدية وبهجة أبدية، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه، ووال في بلد يسوسه وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما، ومن الناس من جوّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال: معنى {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} ذللوا، ومن ذلك قوله:
إن التي عاطيتني فرددتها ** قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرًا.
ونقل عن قتادة أنه قرأ: {فأقيلوا أنفسكم} والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات. اهـ.
قوله تعالى: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم}.